التفوق الإسرائيلي الظاهري- نصر زائف أم حرب مستمرة؟

بعد مرور ما يقارب العامين على لهيب الحرب المشتعلة في غزة والمنطقة بأسرها، برز تفوق إسرائيلي لافت في الميدانين العسكري والأمني، مدعومًا بتأييد مطلق تقريبًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما مكنها من إلحاق خسائر فادحة بجميع خصومها. إلا أن هذا التفوق الكبير لم يمنحها القدرة على إعلان نصر قاطع أو حاسم، ينهي الصراع بشكل جذري.
التفوق الساحق
منذ اللحظات الأولى لعملية طوفان الأقصى، اتخذت دولة الاحتلال قرارًا حاسمًا بطيّ صفحة هذه العملية وتجاوز كافة تأثيراتها السلبية عليها، وتلك الإيجابية لخصومها، وذلك في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى "كيّ الوعي" وفرض حالة من النسيان لما حدث في ذلك اليوم المشؤوم من انتكاسة عظيمة على جميع الأصعدة.
كما ترسخت قناعة راسخة لدى الاحتلال بوجود خطر وجودي ماثل يهدد كيانه، وهو ما استدعى تغييرًا جذريًا في طريقة تعاملها مع التهديدات التي تواجهها في المنطقة. إضافة إلى ذلك، سعت جاهدة لاستعادة ثقة الجبهة الداخلية بالدولة ومؤسساتها العسكرية والحكومية، واغتنام الفرصة السانحة لفرض وقائع ومسارات جديدة على المنطقة، ضمن مشروع "تغيير خرائط الشرق الأوسط" الذي كان بمثابة خطة مُعدة مسبقًا وُضعت قيد التنفيذ.
تضافرت كل هذه العوامل لتشكيل "إسرائيل" جديدة، بلغت ذروة العدوان والوحشية وسفك الدماء. تجسد ذلك في نظرية أمنية مغايرة، لم تعد تعتمد على انتظار وقوع التهديد للتعامل معه باحتواء أو إدارة أو إفناء، بل تسعى جاهدة لمنع نشوئه من الأساس، ومواجهة هذا الاحتمال/الإمكانية بقوة غاشمة وبأقصى قدر ممكن من الدموية المتعمدة، كبديل عن معادلة الردع التي انهارت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تجسد هذا النهج الإسرائيلي في إبادة جماعية مروعة في غزة، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء الأبرياء، وأضعافهم من الجرحى والمصابين، بالإضافة إلى نزوح قسري لمعظم سكان القطاع، وتدمير شبه كامل لمؤسساته وبنيته التحتية، وخسائر فادحة للمقاومة الفلسطينية في العتاد والرجال، وفي القطاعات العسكرية والسياسية والحكومية.
وسعياً للضغط بكل قوة على المقاومة في المفاوضات، فرض الاحتلال حصاراً خانقاً، وتجويعاً غير مسبوق، وتهجيراً مستمراً لسكان القطاع، تمهيداً لمشروع تهجير شامل إذا ما سنحت له الفرصة. كل ذلك تم بغطاء أميركي كامل، ساهم بشكل كبير في قدرة "إسرائيل" على التعامل مع الضغوط الدولية المتزايدة.
وفي لبنان، شنت دولة الاحتلال حرباً مدمرة على حزب الله، بهدف تدميره واجتثاثه من جذوره، من خلال عمليات التجسس والتنصت على الاتصالات، ثم سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية وأمنية وسياسية مرموقة، على رأسها أمينه العام السابق، بكل ما يمثله من ثقل ورمزية وقدرات قيادية فريدة.
وتزامن ذلك مع شن مئات الغارات الجوية التي استهدفت أسلحته وصواريخه الاستراتيجية، أعقبها توقيع اتفاق مجحف لوقف إطلاق النار، وإطلاق يد "إسرائيل" في لبنان قصفاً وتوغلاً واغتيالاً، مع ضغط الجبهة الداخلية اللبنانية لتسليم سلاح الحزب. كما لا يمكن إغفال الآثار السلبية لتغيير النظام في سوريا على خطوط إمداد الحزب وقدرته على التعافي.
وفي إيران، وجهت "إسرائيل" خلال "حرب الـ12 يوماً" ضربات موجعة، تمثلت في الاغتيالات، واستباحة الأجواء، وتدمير منظومات الدفاع الجوي، وصولاً إلى استهداف المنشآت النووية بالقصف الأميركي المنسق معها.
كما استهدفت قوات الاحتلال اليمن مرات عديدة، مُوقعة خسائر فادحة في ميناء الحديدة ذي الأهمية الاستراتيجية، بالإضافة إلى الغارات الجوية المستمرة، ومحاولات الاغتيال المتكررة.
وفي سوريا، ورغم غياب أي تهديد حقيقي لها، أعلنت "إسرائيل" إلغاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، واحتلت مساحات جديدة، وسيطرت على مصادر المياه، وقصفت مناطق قريبة من القصر الرئاسي، وهددت باغتيال الرئيس، وأعلنت صراحة دعم الأقليات، وهددت بتقسيم البلاد، وفرضت واقعاً جديداً في السويداء، فضلاً عن تدمير معظم الأسلحة وقدرات الدولة السورية.
لا انتصارَ ساحقًا
قد يعطي كل ما سبق انطباعاً بأن "إسرائيل" قد هزمت جميع أعدائها، بل وخصومها المحتملين في المستقبل، وحققت الانتصار الكامل الذي طالما وعد به رئيس الوزراء، وأنها أعادت بالفعل رسم خرائط المنطقة بالقوة والنار، كما تبجح بذلك الأخير.
إلا أن الحقيقة هي أن هذا ليس مجرد انطباع خاطئ فحسب، بل هو إيحاء زائف تسعى البروباغندا الإسرائيلية إلى ترسيخه، لخدمة أهداف داخلية وخارجية على حد سواء.
ففي غزة، التي تعتبر بؤرة الحرب الرئيسية والجبهة التي أذلت الاحتلال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وزلزلت أركان نظريته الأمنية وتفوقه الاستخباري والعسكري، تكيفت المقاومة بقيادة كتائب القسام ببنيتها ومؤسساتها وخططها الميدانية، وباتت قادرة على مواصلة النضال ضد الاحتلال، رغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها.
أثبتت الكتائب قدرتها الفائقة على استنزاف العدو وإيقاع خسائر كبيرة في صفوفه، بل طورت عملها لمحاولة أسر جنود إضافيين في المعركة. وما زالت المقاومة متمسكة بورقة الأسرى، التي تعتبر ورقتها الأقوى في مسار التفاوض، مما يؤكد أنها ما زالت عصية على الهزيمة والانكسار، ويفرض على الطرف الآخر التفاوض معها حتى اللحظة الراهنة.
وفي لبنان، ورغم الخسائر التي يصعب تعويضها، لم ينكسر حزب الله ولم يستسلم، ورغم مرونته الكبيرة في موضوع السلاح جنوب نهر الليطاني، فإنه بعيد جداً عن فكرة تسليم السلاح، وما زال الرئيس مصراً على سيناريو الحوار الداخلي بهذا الخصوص وليس المواجهة العسكرية المباشرة.
كما ارتفعت وتيرة تصريحات قادة الحزب مؤخراً، بأنه يتعافى ورمم الكثير من خسائره، وبات "مستعداً للمواجهة" إذا ما اقتضت الضرورة.
أما إيران، فقد استوعبت الصدمة الأولى وخاضت حرب استنزاف لاحقة، مستهدفة الجبهة الداخلية "الإسرائيلية" وبعض المواقع الحساسة بدقة فاقت التوقعات.
كما فرضت صواريخها معادلات ردع جديدة، دفعت رئيس الحكومة إلى الدعوة لوقف إطلاق النار بعد الضربة الأميركية للمنشآت النووية، وهذا ليس موقف من حقق نصراً ساحقاً.
وليس من المعروف حتى اللحظة حجم الضرر الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، وتشير معظم التقديرات إلى عدم تدميره بالكامل، مما يعني إمكانية استئناف نشاطه، وبشكل أسرع ربما، إذا ما توافرت الإرادة السياسية لذلك.
ولعل اليمن هي أقل الجبهات التي تعرضت لضربات "إسرائيلية" كبيرة، وهي -للمفارقة- الجبهة التي ما زالت على نشاطها وفاعليتها، مع سقف خطاب أعلى بكثير اليوم، وتهديد بتصعيد الاشتباك مع الاحتلال؛ بسبب حرب التجويع التي يشنها ضد أهل غزة.
والخلاصة..
إن التفوق العسكري والاستخباري الكبير لدولة الاحتلال، والذي بنته الولايات المتحدة الأميركية على مدى عقود، وانخراط الأخيرة بشكل واسع في الحرب دعماً وغطاءً ومشاركة فعلية، يتيح لها توجيه ضربات قاسية لأعدائها، بما يشمل الدمار الهائل، والاغتيالات المؤثرة، والاختراقات العميقة، والخسائر البشرية الفادحة، ولا سيما في غزة.
لكن كل ذلك لم يمكنها من تحقيق الانتصار، ولا حتى ادعائه.
تحاول دولة الاحتلال أن تصور الخسائر الكبيرة التي تسببت بها على أنها النتيجة النهائية للحرب، ويتفق معها البعض أحياناً، إما عن جهل بالوقائع، أو تحت ضغط الأزمة الإنسانية الخانقة، أو بسبب أجندات سياسية معروفة.
لكن ذلك غير دقيق على الإطلاق، ليس تقليلاً من شأن الإنسان، شهيداً وأسيراً ومصاباً ومهجراً ومجوعاً، ولا تقزيماً من قدرات "إسرائيل" وأثر الدعم الذي تحظى به، ولكن لأن ذلك جزء من تقييم المعركة/الحرب، وليس نتيجتها النهائية.
لقد فصلنا في مقالات سابقة العوامل التي تقيم نتائج الحروب على أساسها، والتي منها بالتأكيد الخسائر البشرية والمادية، ولكنها ليست الوحيدة، وفي أحيانٍ كثيرة ليست الأولى. فكم من دولة قدمت خسائر أكبر بكثير من عدوها ولكن انتصرت عليه في النهاية.
وإذا كان ذلك حال الدول، فحركات التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال أولى وأجدر. فضلاً عن أن المبالغة في الوحشية مع المدنيين مقصودة لذاتها من قبل "إسرائيل"، مما يدفع للحذر من الوقوع في فخ التقييم الذي تنصبه.
كل ذلك في حال وضعت الحرب أوزارها واتضحت نتائجها بشكل كامل، فما بالنا والحرب مستمرة، وهي -بالمعنى الأشمل- طويلة الأمد، قد تتوقف مؤقتاً، لكن مسارها ونتائجها مرشحة دائماً للانفجار والتوسع، ولا سيما في ظل النوايا المعلنة لرئيس الحكومة وشركائه.
والإشارة الأخيرة، أنه كلما أظهر طرف من الأطراف مرونة كبيرة وسعياً ملحوظاً لوقف الحرب، تصلب الموقف "الإسرائيلي" أكثر، وبات أكثر عدوانية ودموية. وقد تكرر الأمر في غزة، ولبنان، وسوريا، وإيران.
أخيراً، ما زالت نتائج عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قائمة، لم تمح ولم تنس، وسيُبنى عليها الكثير.
أما تفاعلاتها ومآلاتها طويلة الأمد، فما زالت لم تتبلور جميعها بشكل واضح وكامل.
قد نكون اليوم أمام اللحظات الأخيرة من الجولة الحالية من الحرب، وقد نكون أمام جولة ممتدة، لذلك فالمنطق السليم يقتضي تركيز كافة الجهود لتعزيز أوراق القوة، وزيادة الضغط على "إسرائيل"، وليس العكس.
فالمطلوب حالياً هو الصمود وتعزيز الموقف، وإلا تحولت الأزمة الإنسانية التي تسبب بها الاحتلال إلى انتصار استراتيجي له، وهذا ما يجب منعه بكل السبل.